قصة نصرة .الأرواح زي الأماكن، في منها الطيب وفي منها الخبيث، ومنها اللي من جواه خراب وضلمة، ومنها اللي جواه سلام ونور.. طب ماذا لو روح او شبح، او بمعنى أصح، قرين خبيث، اتعلق بمكان ما.. مش ممكن يحول حياة زواره لجهنم على الأرض؟!
*********
نصرة، بنت في اول العشرينات من عمرها، اصولها من دولة عربية، بالتحديد هي من دولة ضمن دول المغرب العربي، لكنها ماعاشتش معظم عمرها في الدولة دي، وده لأنها من وقت ما فتحت عنيها على الدنيا هي واخوها الاكبر منها، وهي لقت نفسها هي وعيلتها عايشين في دولة اوروبية، والدولة الاوروبية دي والدها كان بيشتغل فيها، ويادوب، كل كام سنة كده كان بيسافر هو عيلته، اللي هي نصرة وامها واخوها يعني، للدولة العربية اللي هم منها عشان يزوروا قرايبهم، لكن حياة نصرة وتعليمها هي واخوها، معظمها كانت برة بلدها الاصلية.. ومع مرور السنين، اخو نصرة كبر واتجوز وسافر عشان يشتغل في دولة اوروبية تانية، اما نصرة نفسها، فبعد ما خلصت دراستها في الجامعة، جت لها شغلانة كويسة اوي، والشغلانة دي، جت لها عن طريق زميلة ليها في الكلية، وده حصل لما زميلتها قالت لها ان في دار للمسنين ادارتها عاملة اعلان في الجورنال، وطالبين مشرفة نفسية على النزلاء.. وقتها نصرة فرحت لكذا سبب، اولهم انها خلاص كبرة وهتعمد على نفسها وهتشتغل، وتانيهم انها بشغلها ده، هتقدر تحضر رسالة الماجستير بتاعتها، وده لانها كانت بتتكلم عن الامراض النفسية المصاحبة للشيخوخة، ومن هنا بدأت كل حاجة، او بالتحديد يعني، من بعد ما نصرة راحت قدمت واتقبلت في الشغلانة، وابوها وامها سمحوا لها إنها تشتغل.. طب هنا يجي سؤال، هو ليه ابو نصرة او امها ممكن يرفضوا شغلها في الدار؟!.. هقولك، الدار كانت في مكان بعيد عن سكن الاب والام، يعني يعتبر سفر، وكمان كانت في مكان مقطوع، ومش كده وبس.. ده الشغل في الدار هيخلي نصرة تبات فيها كل يوم، وتاخد يومين اجازة بس في الاسبوع!.. ورغم كل ده، اهلها وافقوا وهي قررت تخوض التحدي، وبعد ما قدمت ورقها واتقبلت وعرفت التفاصيل والشروط، خدت شنطة هدومها وراحت على الدار.. الدار اللي ماكانتش زي اي دار مسنين شافتها او سمعت قبل كده، دي كانت مبنى غريب وسط مكان زراعي معزول عن العمار، شبه القصر، او شبه ايه، دي هي فعلًا كان شكلها من برة بيقول انها قصر، اما من جوة بقى، فالدار كانت مليانة أوض، وكانت عبارة عن أدوار، الدور الأول بيسكن فيه اللي بيخلوا بالهم من المسنين، من مشرفات لممرضات لطبخات لعاملات، طب ليه كلهم في نهاية لقب شغلهم تاء التئنيث؟.. ببساطة لأن كلهم ستات، وده لأن النزلاء في الدار اصلًا كانوا كلهم سيدات اعمارهم كبيرة ومحتاجين اللي يراعهم كويس وياخد باله منهم، وعشان كده كانوا كل اللي بيشتغلوا في الدار ستات، بالظبط زي النُزلا.. ومن ضمن اللي شغالين كانت مين، ايوه.. نصرة، نصرة المشرفة النفسية الجديدة اللي جت وسط ترحاب من كل اللي شغالين، واللي شغالين بالفطرة كده، كانوا من دول مختلفة، بس كلهم كانت بتجمعهم حاجة واحدة، انهم بيتكلموا لغة البلد اللي هم عايشين فيها بطلاقة.. بالظبط زي المشرفة النفسية الجديدة، او زي كانوا بيقولوا لها.. دكتورة نصرة.
دكتورة نصرة استلمت شغلها من اول يوم وابتدت تتابع حالات النزلاء، كان منهم اللي عندها زهايمر، ومنهم اللي عندها شيخوخة، ومنهم اللي مصابة بأمراض عقلية مخلياها مش متزنة، وكان بالنسبة لها كل ده عادي، هي اصلًا درست الأمراض دي في الكلية واتدربت عليها عملي كمان، فكانت بتتعامل مع اللي في الدار بكل أريحية وكانت بتحاول تساعدهم في انهم يقضوا الباقي من عمرهم في هدوء وسكينة، وهي كمان كانت بتحب الهدوء والسكينة جدًا، وده اللي لقته في الدار.. كان ليها أوضة مخصصة، أوضة ليها لوحدها، زيها زي المديرة او رئيسة العاملات او رئيسة المشرفات، أوضة كبيرة ومريحة، النوم فيها هادي، وفضل هادي لمدة اول تلات ليالي، لكن في الليلة الرابعة، شافت نصرة اللي خلاها تتفزع!
نصرة في اليوم الرابع وبعد ما خلصت شغلها، دخلت على السرير من بدري كعادتها، شربت كوباية مايه ومسكت كتاب وابتدت تقرا فيه على نور الأباجورة اللي منورة جنبها، واثناء ما كانت بتقرا، الوقت سرقها وماحستش بنفسها ولا فاقت من سرحانها، الا بعد وقت طويل، بس لما فاقت من دوامة القراية اللي كانت دخلت فيها، سمعت حواليها صوت موسيقى.. الموسيقى كان صوتها غريب، وكإنها خارجة من جرامافون قديم، اه.. الصوت خارج من جرامافون، ظنها كان في محله، واكبر دليل على كده ان الصوت كان معاها زي وَش او خربشة، بالظبط زي خربشة اسطوانات الجرامافون!
رَفعت نصرة راسها وابتدت تبص حواليها وهي بتدور على مصدر الصوت، بس وقتها لاحظت حاجتين اغرب من بعض، اول حاجة ان النور فجأة قطع والأوضة كانت ضلمة تمامًا، ويادوب كان فيها بس ضوء بسيط، وهو ضوء القمر اللي داخل من أزاز أوضتها المقفول.. وتاني حاجة كان مصدر الصوت، الصوت ماكنش جاي من مكان او اتجاه معين، ده زي ما يكون بيتوزع في الأوضة، وكأن حد شايل الجرمافون وعمال يلف بيه حواليها!
اتعدلت في مكانها وبصت حواليها وسألت بلغة البلد اللي هي عايشة فيها.. (مين؟.. مين معايا في الأوضة وصوت المزيكا ده جاي منين؟).. بس مالقتش رد مباشر، مافيش صوت رد عليها ولا حد اتكلم، وكان الرد الوحيد اللي جالها هو صوت الجرامافون اللي بقى ثابت في مكان محدد، قصاد سريرها بالظبط، وكمان صوته بقى أعلى!
وقتها كانت نصرة قاعدة على سريرها بخوف وبحذر وركزت قصادها، ركزت ناحية الصوت، ومع تركيزها ولما عنيها خدت على ضلمة الأوضة، قدرت تشوف على ضوء القمر اللي خلاها تتفزع.. نصرة شافت قصادها بالظبط، واحدة ست، كائن هُلامي أسود، تفاصيل جسمه وتقسيمته بيقول انه واحدة ست.. ارتبكت نصرة وحاولت تتدارك الموقف، ابتسمت بخوف وبقلق وسألت بصوت عالي (انتي مين.. انتي واحدة من العاملات وبتعملي معايا مقلب؟).. وبرضه الست اللي قصادها ماردتش، واللي رد كان صوت الجرامافون اللي اتغير المرة دي، الموسيقى اللي طالعة منه او طالعة من ناحية الست بالتحديد، ابتدت تعلى بشكل هيستيري لدرجة ان اللحن تلاشى واختفى، واللي بقى موجود ومسموع بشكل أوضح، هو صوت التزييق او خرفشة الاسطوانة في إبرة الجرامافون.
حطت نصرة ايدها على ودانها وفي محاولة منها إنها ماتسمعش الصوت، لكن ده ماحصلش، الصوت كان واصل لجوة راسها رغم انها سدت ودانها بايديها، ومن شدته وكتر ازعاجه، صرخت بصوت وقالت كفاية، راسي هتنفجر، وساعتها الصوت سكت ونصرة حست ان في حد قصادها بالظبط، ماكانتش شايفة كويس، زي ما يكون الدنيا ضلمت خالص وبقى في حاجة حاجبة الرؤية عن عينيها، بس بالرغم من انها ماشافتش، الا انها حست.. حست بأنفاس سخنة وقوية بتخبط في وشها، انفاس وصفتها نصرة انها زي ما تكون أنفاس شيطان خارج من الجحيم!
بلعت ريقها وحاولت تتمتم بأي أيات او تسابيح هي حافظاها، بس قبل ما تعمل كده او قبل حتى ما تفتح بوقها، حست بإيد اتحطت على بوقها، كانت إيد باردة، زي ماتكون الجثة صاحبة الإيد كانت متجمدة جوة تلاجة الميتين، ومع حطة الإيد على بوقها، سمعت في ودانها همس بكلام كتير بيتقال بسرعة، كلام بلغات مختلفة، وفي وسط الكلام اللي اتهمسلها بيه بسرعة ده، سمعت جملة فهمتها كويس، لانها اتقالت بنفس لغة اهل البلد، والجملة دي كان معناها (ده بيتي.. ومن بعد نص الليل هو ملكي!)… مافهمتش نصرة معنى الكلام اللي اتقال، لكنها في لحظة حست ان جفونها بتتقل وغابت عن الدنيا!
صحيت بعد فترة على صوت واحدة من العاملات وهي بتصحيها، قامت مفزوعة، مرعوبة، كانت بتبص حواليها وكأنها شافت اسوء كوابيسها، وبعد مرور لحظات ولما فاقت وأدركت إنه كان كابوس او حلم سئ، ماحكيتش للعاملة عن اللي شافته، لما سألتها انتي قايمة مفزوعة ليه، دي اكتفت بس بإنها قالت لها، إنها قامت مفزوعة لأنها افتكرت ان راحت عليها نومة… وبعد ما خرجت العاملة وخصلت كلامها مع نصرة، قامت وعملت روتينها اليومي وابتدت تمر على المُسنات، واحدة، والتانية، والتالتة، لحد ما وصلت للرابعة، والست الرابعة دي كانت هادية، مابتتكلمش كتير، كان مكتوب في تقريرها او ملفها اللي كان بين إيدين نصرة، إنها كانت سيدة مجتمع صالحة، كان عندها ابن وحيد وجوزها ميت، بس ابنها مات هو كمان ومعاه مراته وبنته في حادثة على طريق من الطرق السريعة، ولإنها بعد وفاة ابنها بقت سيدة كبيرة في السن وعايشة لوحدها، فالحكومة قررت انها توديها للدار دي عشان تتلقى الرعاية الكاملة من كل النواحي بقى، نواحي طبية ومعيشية وانسانية.
قربت نصرة من الست وابتسمت لها، حاولت تتكلم معاها وتخليها تتكلم هي كمان، بس الست ماتكلمتش، دي فضلت باصة لنصرة بملامح ساكتة وجامدة لمدة دقايق، دقايق ولا بتتكلم ولا بترد على حرف من كلام نصرة، لدرجة ان نصرة اخر ما مَلت، قررت انها تسيبها وتمشي وقالت انها هتبقى ترجعلها في وقت تاني، لكن نصرة قبل ما تمشي، الست دي مسكتها من دراعها وبصت في عينيها، ومن غير أي مقدمات قالتلها بنفس لغة اهل البلد.. (ماكنش حلم.. نامي قبل نص الليل.. الليل ليها).. نصرة لما سمعت كلامها ده برقتلها، اترعبت، جسمها قشعر من الخوف والقلق، حست ان الجو بقى برد اكتر من المعتاد، وبعد لحظات من الصمت والخوف، قربت نصرة من الست وسألتها بزعيق عن سبب كلامها، حاولت تفهم منها اي تفاصيل تانية او تخليها تفسر كلامها، بس مافيش، الست رجعت سكتت تاني بعد ما قالت الكام كلمة اللي قالتهم لنصرة، وكأنها اصلًا بطبيعتها خرسة، ورجعت بس اتكلمت تاني في الكام كلمة دول، وبعدهم رجعت لطبيعتها!
طبعًا وقتها اتدخلوا العاملات والمشرفات وحاولوا يهدوا نصرة اللي كانت منفعلة بدون سبب منطقي من وجهة نظرهم، ولما سألوها عن سبب عصبيتها وغضبها، قالتلهم ان الست دي خوفتها وقالتلها كلام مرعب عن الليل وعن انها لازم تنام بدري وألا هتتأذي!
هدوها كل اللي واقفين وقالوا لها انها ست عجوزة، ووارد جدًا تكون بتهزي بأي كلام لأن سنها كبير.. وبعد ما نصرة بقت أهدى، والكل مشي من حواليها والست رجعت لسريرها، اتدخلت واحدة من العاملات كانت من أصل عربي، قربت من نصرة وقالتلها انها عاوزة تحكيلها على حاجة مهمة بس في جنينة المستشفى، وفعلًا نزلت نصرة مع العاملة للجنينة، ولما سألتها العاملة عن سبب عصبيتها، حكت لها نصرة عن كل اللي مرت بيه بالليل، وحكتلها عن كلام الست، وبعد ما نصرة حكت، ابتدت العاملة تحكيلها عن تفسير لكل اللي شافته او عن اللي سمعته من الست..
العاملة قالت لنصرة ان المكان اللي هم فيه ده كان زمان قصر لواحد من رجال الأعمال، الراجل ده حَب واحدة من دولة افريقية، دولة من دول وسط افريقيا، ولما حبها في رحلة من رحلاته، خدها معاها لبلده الاجنبية اللي القصر مبني فيها، وبنى لها القصر ده، لكن بعد الجواز صادفتهم عقبة، الست ماخلفتش من الراجل، ووقتها هي وهو كمان، كانوا عاوزين مولود عشان يورث من ابوه كل ثروته اللي جمعها في حياته، بما فيها القصر ده، وعشان الست دي تخلف عملت ايه، ماراحتش لدكتور لأن زمان ماكنش الطب بيتم الاعتراف بيه في الحالات اللي زي دي حتى في اوروبا، الست راحت زيارة لأهلها وجابت معاها ساحرة من هناك، والساحرة دي علمتها طقوس تعملها عشان تبقى حامل، وبعد ما علمتها الطقوس وشلغتلها بخور معين في البيت، خدت منها فلوس ورجعت تاني على قارة افريقيا، اما الست نفسها بقى، او صاحبة القصر يعني، فمن بعد ما بقت تعمل الطقوس دي وهي صحتها بقت في النازل، مابقتش تنام كويس وبقت تقول لجوزها انها كل ما تنام بقت بتشوف كوابيس، وفضلت حالتها تسوء وتدهور لحد ما بين يوم وليلة ماتت.. ماتت وسابت القصر لجوزها اللي مات بعدها بتلات سنين، وقبل ما يموت كتب في وصيته ان القصر ده يتحول لدار رعاية للمسنين اللي مالهمش حد، وده لأنه مات وحيد وكان كبير في السن، فماكانش عايز الناس تعيش نفس معاناته، ودي كانت حكاية القصر وحكاية الست اللي بتظهر فيه من بعد نص الليل، واللي بسبب ظهورها كل النُزلا والعاملات، اتعودوا يناموا بدري ويصحوا بدري عشان مايشوفوهاش، ولو حد فيهم فضل سهران لبعد نص الليل، فبالتأكيد بيشوفها او بيسمعها او بتظهرله، اما بقى عن الست المُسنة اللي مابتتكلمش واتكلمت مع نصرة، فالست دي، العاملة قالت إنها اه مابتتكلمش وتملي في حالها، لكنها بتتكلم في موافق معينة او بتحذر حد من مشكلة ما ممكن تحصله، واستشهدت على كده انها في مرة قالت لمشرفة الدور اللي هي فيه، انها تخلي بالها من بنتها وتهتم بيها، وفعلًا كلامها كان في محله، المشرفة لما قربت من بنتها وسألتها عن احوالها، اكتشفت انها بتعاني من صداع مزمن بقالها فترة، وطول الفترة دي هي كانت بعيدة عنها ومشغولة عنها بشغلها في الدار.. وغيرها كتير من الحالات اللي شبه كده، واخرها كانت حالة نصرة اللي الست اتكلمت قدامها بعد سكوت دام لفترة طويلة.
نصرة بعد ما سمعت المعلومات دي من العاملة، قررت فورًا انها تقدم استقالتها من المكان ودورت على شغل تاني وبالفعل لقت، لكن المكان او الدار دي، او القصر بقى اللي اشتغلت فيه في البداية حياتها، لسه لحد النهاردة محفور جوة عقلها، محفور جوة عقلها بذكريات مرعبة عدى عليها اكتر من ٥٠ سنة، يعني بحسبة بسيطة كده، نصرة دلوقتي بقت ست معدية السبعين، بس هي تملي بتقول لاولادها ولأحفادها انها مهما عاشت او شافت، فعمرها ما هتعيش ولا هتشوف، زي اللي عاشته وشافته جوة الدار اللي اشتغلت فيها دي، او زي ما بتقول عنها دايمًا.. قصر سيدة منتصف الليل.
تمت
#محمد_شعبان
#قصر_سيدة_منتصف_الليل
#نصرة